|
|
| ضوابط الحكم على الأشخاص ونقد الكتب الجزء 2 | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
همام(فارس الإسلام) مشرف
عدد الرسائل : 167 تاريخ التسجيل : 21/11/2007
| موضوع: ضوابط الحكم على الأشخاص ونقد الكتب الجزء 2 الخميس أكتوبر 23, 2008 7:41 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم
2 سلامة القلب والتجرد من الهوى
وذلك أن محاولة تقويم أي رجل من الرجال أو مؤلَّف من المؤلَّفات بمقررات سابقة وخلفيات مبيتة تجعل الإنسان يميل عن الحق ميلاً واضحًا، فهو لا ينظر إلى المرء بمجموع أعماله, بل يتغاضى عن المحاسن, ولا يقع بين عينيه إلا الهفوات، بل قد يعطيها أكثر مما تستحق من النقد والتجريح.
لذا كان التجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صوابًا أو قريبًا من الصواب. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}.
وكما يجب التجرد من هوى العداوة والبغضاء في النقد فإنه يجب التجرد من هوى الحب في المدح, وكما لا يجوز التحامل فإنه لا تجوز المحاباة. قال شعبة: "لو حابيت أحدًا لحابيت هشام بن حسان، كان ختني ولم يكن يحفظ".
وسئل علي بن المديني عن أبيه فقال: "سلوا غيري". فأعادوا فأطرق، ثم رفع رأسه فقال: "هو الدين".
وكان أبو داود السجتساني يكذّب ابنه. وقال عبيد الله بن عمرو: قال لي زيد بن أبي أُنيسة: "لا تكتب عن أخي؛ فإنه كذاب".
وتدبروا أيها الإخوة وصية الله لنبيه داود عليه السلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
فلا ينبغي أن تكون المحبة لشخص أو البغضاء له دافعًا إلى إهمال العدل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. والقلب إن لم يسلم من التأثر بهذه العواطف القلبية فلابد من الخطأ في التقويم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن المعلوم أن مجرد نفور النافرين أو محبة الموافقين لا يدل على صحة قول ولا فساده, إلا إذا كان ذلك بهدى من الله, بل الاستدلال بذلك استدلال باتباع الهوى بغير هدى من الله؛ فإن اتّباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، وردّ القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله".
وقال أيضًا رحمه الله: "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك, ولا يطلبه, ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله, بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه, ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وأنه الحق، وهو الدين".
وبهذا يتبين أن التجرد في القول والعمل وسلامة المقصد أصل مهم في تقويم الرجال وأعمالهم، حتى لو كان رأي الإنسان صحيحًا, لكنه لم يقصد به وجه الله تعالى ثم النصح للمسلمين؛ فإن عمله مردود غير مقبول, وهو مأزور غير مأجور إذا لم يتجاوز عنه ربه؛ قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم, إن لم يقصد منه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحًا، وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها. وقد يهجر الرجل عقوبةً وتعزيزًا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام, كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذين خلّفوا في غزوة تبوك".
فعلى الإنسان المسلم أن يفتش في قلبه ويطهّره من جميع آثار الهوى قبل أن يبدأ في تقويم شخص من الأشخاص أو كتاب من الكتب؛ لكي يكون متين الرأي منصفًا, بعيدًا عن الجور والظلم المذموم شرعًا، وذلك أن صاحب هذا القلب الطاهر السليم مطمئن البال, هادئ النفس, يحب الخير للناس, ويبذل النصح لهم, وهذه هي صفات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين مدحهم الله عز وجل بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
ومثل هذا يُلقى له القبول بين الناس حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات؛ فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة وحب الهداية للغير لا مجرد الرد والخصومة والجدال كما هو الحال في كثير ممن يتصدى للمخالفين له أو لشيخه؛ حيث إن الأمر يصل به إلى الاعتداء في كلامه لمن يخالفه في الفروع التي يسعها الخلاف, فضلاً عن الأصول, لا لشيء إلا لأنه خالفه أو خالف شيخه وكفى.
فبسلامة القلب إخوة الإسلام يتم العدل في جميع الأمور, وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه، ولا ينتقم لنفسه.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين أحد عشر مشهدًا فيما يصيب المسلم من أذى الخلق وجنايتهم عليه, نكتفي بمشهد واحد؛ حيث يقول رحمه الله: "المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب، وهذا مشهد شريف جدًا لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو أن لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرّغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوّه منه أنفع له وألذ وأطيب، وأعون على مصالحه؛ فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه، فيكون بذلك مغبونًا، والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغلّ والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام.
ولابن تيمية رحمه الله رسالة كتبها إلى تلامذته بدمشق تبرز فيها هذه الصفة ـ سلامة القلب ـ بجلاء, نذكر مقاطع منها:
يقول رحمه الله في رسالته لتلامذته: "وتعلمون من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين تأليف القلوب, واجتماع الكلمة, وصلاح ذات البين؛ فإن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}, ويقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}, وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف, وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة".
إلى أن قال في الرسالة نفسها: "وأول ما أبدأ به من هذا الأصل ما يتعلق بي, فتعلمون ـ رضي الله عنكم ـ أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين ـ فضلاً عن أصحابنا ـ بشيء أصلاً, لا باطنًا ولا ظاهرًا، ولا عندي عتب على أحد منهم ولا لوم أصلاً, بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان كلٌّ يحسبه, ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا أو مخطئًا أو مذنبًا، فالأول مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه مغفور له، والثالث فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل: فلان قصّر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل مثل هذا يعود على قائله بالملام إلا أن يكون له من حسنة، وممن يغفر الله له إن شاء الله, وقد عفا الله عما سلف".
إلى أن قال رحمه الله في الرسالة نفسها: "فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كَذِبِه عليّ، أو ظُلمِه وعدوانه؛ فإني أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي, والذين كذبوا وظلموا في حلّ من جهتي".
انتهى كلامه رحمه الله، وهو كلام عظيم يستشعر قارئه فيه الصدق وقمة التجرد من الهوى، وقلّ من يكون كذلك.. وقد قال الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي: "هيهات هيهات! إن في مجال الكلام في الرجال عقبات، مرتقيها على خطر، ومرتقيها هوىً لا منجى له من الإثم ولا وزر، فلو حاسب نفسَه الرامي أخاه ما السبب الذي أهاج ذلك؟ لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك.
ونظرًا لأهمية هذه القاعدة ـ سلامة القلب والتجرد من الهوى ـ في تقويم الأشخاص والكتب كان من منهج أئمة الحديث في تقويم الرجال أن كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى، والأقران هم النظراء في المكانة والعلم أو المتنافسون في مجال ما، فهؤلاء الأقران كثيرًا ما يقع بينهم شيء من الاختلاف لأي سبب من الأسباب؛ فيؤدي ذلك إلى وقوع بعضهم ببعض دون عدل أو تأنٍّ، حتى إن الواحد منهم قد يصف صاحبه بأوصاف يعلم يقينًا أنه بريء منها، ولكنّ حبّ الذات والانتصار للنفس يزكي فيه روح الغيرة والاعتداء. ومن أجل هذا كان النقاد الجهابذة من المحدثين يهملون هذا الجرح لأنه في الغالب لا يسلم من التجرد من الهوى ولا يصدر عن سلامة في القلب.
قال الإمام الذهبي: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به, لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد... وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين, ولو شئت لسردت من ذلك كراريس".
فإذا كان هذا كلام الذهبي في زمانه السالف وما قبله فكيف بحالنا اليوم؟!
وقال السبكي: "الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكّوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه مِن تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة، ولو فتحنا هذا الباب وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة؛ إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون.
فتأمل أخي المسلم كيف كان منهج سلفنا في تقويم الأشخاص, وكيف أصبحنا اليوم نقع في الأشخاص وننقدهم النقد اللاذع, ليس لأننا رأينا أخطاءهم بالعمل, ولكن اعتمادًا على كلام أقرانهم وقدح منافسيهم فيهم, مع أن ذلك لا يصلح الاعتماد عليه في النقد والتقويم, بل يطوى ولا يروى كما قال الأئمة(*).
ومن المهم أن ندرك أن صورة ذلك الاختلاف بين الأقران لا تقف عند المحدثين فحسب، بل تتعداه في عصرنا إلى العلماء والدعاة وشتى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية. ولذا كان المنهج القسط أن ينظر إلى الخلفيات التي تكمن وراء الجرح والنقد، ومن ثم يوزن الجرح أو النقد بما يقتضيه الحال مع التحري والإنصاف, حتى لا يُتَّهم أحد بما ليس فيه، فليس كل جرح مؤثرًا، وليس كل اتهام مقبولاً.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه".
فتأمل كيف ابتعد الناس اليوم عن معنى هذا الكلام المستقيم؛ حيث أصبحوا يفقدون الثقة بعضهم ببعض اعتمادًا على شائعة أو اتباعًا لكلام حاسد.
ومن التجرد من الهوى الفرح بإصابة الغير للحق والحزن على مجانبتهم له، ولعل هذا الأمر من أصعب الأمور؛ لأنه يمثل قمة العدل والتقوى والورع، ومما يؤسف ويحزن أننا نرى الكثيرين من دعاة المسلمين اليوم ـ فضلاً عن عامتهم ـ إذا رأوا غيرهم قد أخطأ فإنهم يفرحون بذلك, حتى يحسبونه غلبة, بل إنك ترى الكثيرين منهم يتتبع الكتابات والمقالات التي قالها غيرهم, وهمهم الوحيد هو تتبع العثرات والفرح باصطيادها, في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك ـ من إصابة غيرهم للحق ـ فإنهم يحزنون لهذه الإصابة، وهذا ـ والعياذ بالله ـ هو الظلم والحقد والحسد والذي لا يلتقي مع الإخلاص والعدل وحب الخير للناس، وما أحسن الحكاية التي ذكرها ابن رجب رحمه الله حول هذا الأمر؛ حيث قال: "وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: (أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته, فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال: بثلاث؛ أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه. ـ أو معنى هذا ـ فقال أحمد: ما أعقله من رجل).
| |
| | | همام(فارس الإسلام) مشرف
عدد الرسائل : 167 تاريخ التسجيل : 21/11/2007
| موضوع: رد: ضوابط الحكم على الأشخاص ونقد الكتب الجزء 2 الخميس أكتوبر 23, 2008 7:42 pm | |
| 3ـ اعتبار النوايا والدوافع في التقويم، ومراعاة أن كل بني آدم خطّاء
فقد يرفع البعض من شأن المنافقين لأنهم خدعوا الناس بمعسول الكلام وببعض الحق, وإنما أرادوا به باطلاً ومؤامرة.. وما أبلغ قول الحق تبارك وتعالى في فضح أصحاب مسجد الضرار: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيه}, وفي المقابل قد يحط البعض من شأن الدعاة المخلصين لكونهم أخطأوا في التعبير وكان حقيقة مقصدهم صحيحًا, متجاهلين ما عرف عن هؤلاء المخلصين من صحة الاعتقاد وسلامة القصد، كذلك قد يصدر البعض حكمًا قاسيًا على شخص ما لخطأ أخطأه دون البحث عن النوايا أو الدوافع التي سببت وقوعه في الخطأ, وهذا خلاف منهج النبوة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علم بكتاب حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بمسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحاطب: ((ما حملك على ما صنعت؟)), وهذا ما نعنيه بضرورة اعتبار الدوافع والنوايا عند تقويم عمل ما أو شخص ما أو كلام ما, قال حاطب: "والله ما بي أن لا أكون مؤمنًا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم, أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((صدق, ولا تقولوا إلا خيرًا)). والحديث رواه البخاري.
فلا شك أن حاطبًا ـ وإن كان قد أخطأ ـ إلا أن نيته تلك تختلف تمامًا عن نية منافق يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم ويتمنى زوال الإسلام. والذي يغفل اعتبار النوايا والدوافع في تقويمه للأمور والأشخاص تختلط عليه أعمال المنافقين وأعمال المؤمنين؛ فكثيرًا ما تصدر بعض أعمال من المنافقين تشابه أعمال المؤمنين أو العكس, ولكن إذا فتشنا عن خلفيات أصحاب هذه الأعمال ودوافعهم وجدنا أنه شتان بينهما.
ومن أمثلة خلط البعض تحاملهم على (سيد قطب) مثلاً, مدّعين أنه يقول بوحدة الوجود, وذلك لعبارات أدبية أوهمت ذلك, ولو راجعوا مقصده ـ رحمه الله ـ بالنظر في مواضع أخرى كثيرة يميز فيها تمييزًا جليًّا بين الخالق والمخلوق لعلموا أنهم أخطأوا في تقويم الرجل مهما كان خطؤه في التعبير... فلا شك أنه ظلم صارخ أن نلحق رجلاً مسلمًا بالملحدين الذين يقولون: لا فرق بين الخالق والمخلوق اعتمادًا على مجرد عبارة لم يقصد كاتبها معناها... وخذ مثل ذلك كثيرًا(*).
كذلك قد يجتهد بعض العلماء أو الدعاة في مسألة ما فيخطئ دون قصد مخالفة النصوص, فلا ينبغي أن نتهمه بالنفاق أو السوء... ومن العجب أن البعض يلحق بعض العلماء المخلصين بأهل التبرج والسفور لكونهم قالوا باستحباب النقاب، وفرق بين هؤلاء وبين من يقصد بالقول بالاستحباب أن يزهّد فيه الناس ويتركوه ويريد أن يمهّد بذلك لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا. ففرق ـ إخوة الإسلام ـ بين المجتهد المخلص إذا أخطأ والمنافق الذي يضمر إضلال الناس وإفسادهم وتلبيس دينهم عليهم. فلابد من مراعاة ذلك؛ لأن قضية الخطأ في الأحكام وغيرها لا تنتهي إلى يوم القيامة, ومهما كان العالم مخلصًا فإنه غير معصوم من الخطأ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء, وخير الخطائين التوابون))، فالخطأ صفة لازمة للبشر, ولو نجا منها أحد لنجا منها الصحابة الكرام. ولكن من كان خطؤه عن اجتهاد سائغ فلا إثم عليه.
قال الآمدي رحمه الله تعالى: اتفق أهل الحق من المسلمين على أن الإثم محطوط عن المجتهدين في الأحكام الشرعية... قال: (وحجة أهل الحق في ذلك ما نقل نقلاً متواترًا لا يدخله ريبة ولا شك وعلم علمًا ضروريًا من اختلاف الصحابة فيما بينهم في المسائل مع استمرارهم على الاختلاف إلى انقراض عصرهم, ولم يصدر منهم نكير ولا تأثيم لأحد، لا على سبيل الإبهام ولا التعيين, مع علمنا بأنه لو خالف أحد في وجوب العبادات الخمس وتحريم الزنا والقتل لبادروا إلى تخطئته وتأثيمه).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه، فتارة يصيبون وتارة يخطئون, فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يُعصمون ولا يؤثمون".
وقال ابن أبي العز الحنفي: "فمخالفة النص إن كانت عن قصد فهي كفر، وإن كانت عن اجتهاد فهي من الخطأ المغفور".
ورحم الله ابن الأثير الجزري إذ يقول: "وإنما السيد من عُدّت سقطاته، وأخذت غلطاته, فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء".
وابن القيم إذ يقول: "وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلومًا جهولاً؟! ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصابته".
ورحم الله القائل:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه
وقديمًا قال أحد الحكماء:
والمرء يعجب من صغيرة غيره لسنا نرى من ليس فيه غميزة
أيُ امرئٍ إلا وفيه مقالُ أي الرجال القائل الفعالُ
4ـ معرفة الرجال بالحق(*):
قال ابن تيمية رحمه الله: "فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله, وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما اجتمعت عليه الأمة. بل هذان فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة, يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون. والخوارج إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه, وجعلوا من خالف ذلك كافرًا لاعتقادهم أنه خالف القرآن، فمن ابتدع أقوالاً ليس لها أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرًا كان قوله شرًا من قول الخوارج".
كذلك قال رحمه الله فيما يجب الإعراض عنه: "التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله. قال: مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي أو قرفندي؟ فإن هذه الأسماء باطلة, ما أنزل الله بها من سلطان, وليس في كتاب الله, ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي, والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي, بل أنا مسلم متّبع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضًا: بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري، فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها, بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان".
وقال أيضًا رحمه الله: "فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى". وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها. وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا, وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة, والفرقة عذاب". اهـ. فالتقويم إذن لا يكون بامتحان الناس باسم أو لافتة أو اتباع شخص معين، وإنما بمعرفة ما عليه الشخص من الحق؛ فإن الرجال يعرفون بالحق الذي معهم ولا يعرف الحق بالرجال, فذلك من التقليد الأعمى، وذلك التقليد من الأدواء المهلكة التي كان لها أثرها السيئ في المسلمين بما فيهم المنتسبون للالتزام والدعوة... إذ إن ثمرة التقليد إهمال النص الشرعي، وتعطيل العقل البشري، حيث إن هذا المقلّد لا ينظر إلى المسائل المختلفة إلا بمنظار مقلده، فيدور في فلكه قبولاً وردًا, فلا يقبل قول غيره، ولا يسمع بعد قوله قولاً، من غير حجة ولا برهان، فالحق ما قاله شيخه وإن خالف الدليل، والباطل ما خالف قول شيخه ولو دلّ عليه الدليل. ولسان حال هذا المقلد يدل على أن إمامه هذا قد اقتبس شعلة من نور العصمة. ومن ثم يصبح فكر الإنسان وما يترتب عليه من القول والعمل ـ أسيرًا لا حراك له، ليس له القدرة على التأمل أو التفكر أو النظر أو التجديد والارتقاء إلى الأفضل، وإن وجد فيه بقية من فكر فإنه يسخّره لتحليل أقوال شيخه ودراستها، فما يكاد ينطلق منها إلا لكي يرجع إليها، فمنها المبدأ وإليها المنتهى. ولا أظن أن تكون هناك مبالغة إذا قيل: إن كثيرًا من النزاعات والخلافات التي تحدث بين العلماء وطلبة العلم والدعاة قديمًا وحديثًا, ومن ثم الاضطرابات في تقويم الرجال والمؤلفات سببه الرئيس هو التعصب لأقوال الرجال ومعرفة الحق بأقوالهم وتنصيبهم حجة في كل صغيرة وكبيرة. قال الإمام ابن القيم: "اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله، فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة".
وقال أيضًا: "والمصنّفون في السنّة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبين زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد وأن العالم قد يزل ولابد؛ إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة المعصوم، فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض، وحرّموه، وذمّوا أهله، وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلّدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل فيه، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولابد, فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله, ويشرعون ما لم يشرع، ولابد لهم من ذلك إذا كانت العصمة منتفية عمن قلدوه، فالخطأ واقع منه ولابد". إذن نحن إخوة الإسلام أمام عقبة كؤود في طريق البناء, وبين أيدينا علة من العلل الخطيرة, إنها اختلال في منهج النظر والاستدلال, اضطراب في منهج التلقي, وها هنا تكمن المشكلة, وما لم نتجاوز أقوال الرجال، وتتحرر أجيال الصحوة الإسلامية من هذا الداء العضال فإننا سوف نجني الكثير من الأمراض المتتابعة التي تنخر في قلب الدعوة الإسلامية, وما من أحد من العلماء الربانيين إلا وقد نهى عن تقليده دون حجة أو برهان، وأقوالهم في ذلك مستفيضة جدًا.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً؛ إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر".
وقال أبو حنيفة: "لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت".
وقال مالك بن أنس: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي, فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه".
وقال الشافعي: "ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه, فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت؛ فالقول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي". وجعل يردد هذا الكلام.
وقال أحمد بن حنبل: "من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال".
وقال أيضًا: "لا تقلد دينك الرجال؛ فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا".
هذا هو المنهج الذي سار عليه أئمتنا الكرام بصفائه ونقائه. والعجيب أنه مع وضوح هذه المسألة وتواترها عن علماء الأمة رضي الله تعالى عنهم إلا أن شريحة كبيرة من الأمة تعاني من هذا الداء المستحكم، ليس في مسائل الفروع فحسب, بل في جميع المسائل العلمية والعملية.
ورحم الله أبا حامد الغزالي إذ يقول: "وهذه عادة ضعفاء العقول؛ يعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق".
والعاقل يقتدي بسيد العقلاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: "لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله.
(*) وما أجمل قول القائل:
خذ ما تراه ودع قولاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
(*) وقد بيّن ابن القيم منهجه في التعامل مع الألفاظ المشكلة فقال: والكلمة الواحدة يقولها اثنان: يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق. والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عنه.
وقال تعليقًا على بعض ألفاظ الهروي ـ صاحب منازل السائرين الذي وضع ابن القيم على كتابه مدارج السالكين ـ قال تعليقًا على بعض ألفاظ الهروي: في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير يجبره حسن حال صاحبه وصدقه، وتعظيمه لله ورسوله. ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له.
(*) فبعض المخالفين لمنهج السلف إذا أراد تقويم شخص سأله: أنت من جماعة من؟! أو أي شيخ تؤيده وتحبه؟! أو هل تقول بالمقالة الفلانية؟! أو كم أصول الدعوة عندكم؟! إلى آخره.. وهذا من طريقة أهل البدع, ولا يلتقي بمنهج السلف في تقويم الأشخاص. | |
| | | | ضوابط الحكم على الأشخاص ونقد الكتب الجزء 2 | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|