لا تكن يـــائســاً 21
فالمستقبل لدين الله والعزة لأولياء الله. منا من رأى تفشي الشر والمنكر وانتشاره واستفحاله رأى العدو تبجح وتقوى وتحت ظل هذه الرؤية رأى أنه مهما عملنا فلن نغير من الواقع شيء ولن نجني سوى التعب والمشقة فليس إذا في السعي فائدة. فإذا بك تنظر إليه متهجم الوجه عاقد الحاجبين مقطب الجبين رافعاً راية: لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر يحسب يوم الجمعة الخميسا مردداً حين يطلب منه خدمة دينه –ولو بالكلمة- : أنت تؤذن في خرابة لا أحد حولك تنفخ في قربة مقطوعة وغيرها من عبارات :
تصدا بها الأفهام بعد صقالها .......... وترد ذكران العقول إناثاً
هلك الناس ...هلك الناس في نظره وقد هلك، وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا دقيقا كما في صحيح مسلم : (( إن قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم)) .
معاشر المؤمنين : مما لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس . وأحلام اليوم هي حقائق الغد. والضعيف لا يظل ضعيفا أبد الآبدين. والقوي لا يظل قوي أبد الآبدين. ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:5 -6).
إننا نملك إيمانا بنصر الله لنا وثقة بتأييديه لنا ويقينا بسنة الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره المجرمون واطمئنانا إلى وعده الذي وعد به عباده المؤمنين ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور:55).
إنه وعد يشحذ الهمم ويستثير العزائم ويملأ الصدور ثقة واطمئنانا إن الدور لنا لا علينا والتاريخ معنا ( إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (الصافات:172). سنة الله رب العالمين قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون))، (( وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيتا مدر ولا بر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل)) كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. فانت أيها المؤمن أجير عند الله كيفما أراد ان تعمل عملت وقبضت الأجر لكن ليس لك ولا عليك أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ذاك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير، وحسبك أن من الأنبياء من ياتي يوم القيامة ومعه الرجل ومعه الرجلان والثلاثة ويأتي من ليس معه أحد ( فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (الشورى:48).
( وآية الآيات في هذا الدين أنه أشد ما يكون ٌقوة وأصلب ما يكون عودا وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً حين ننزل بساحته الأزمات وتوصد عليهم المنافذ حينئذ يحقق الإسلام معجزته ينبعث الجثمان الهامد يتدفق الدم في عروق أبنائه ينطلق ينتـفض).
يقول فيسمع ويمشي فيسرع ........... ويضرب في ذات الإله فيوجعُ
فإذا النائم يصحوا وإذا الغافل يفيق وإذا الجبان يتشجع وإذا الضعيف يتقوى وإذا الشتيت يتجمع وإذا بهذه القطرات المتابعة المتلاحقة من هنا وهناك من جهود القلة تكون سيلاً عارماً لا يقف دونه حاجز ولا سد).
لا يزخر الوادي بغير شعاب .......... وهل شمس تكون بلا شعاع
إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت وتغفو لكنها لا تنام وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً .
حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم دمروا المدن وخربوا العمران وأسالوا الدماء وأسقطوا الخلافة وعطلوا الصلوات وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودّ ماؤه من كثر ما سال من مداد الكتب حتى أصبحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة من هذا الغزو الوحشي الذي لا يبقي ولا يذر والذي يذكر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج حتى أحجم بعض المعاصرين للحدث عن الكتابة فيه منهم ابن الأثير رحمه الله الذي يقول ليت أمي لم تلدني ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. مما رأى . من هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين . ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نكست ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً وأن أمة الفتح والنصر قد حقت عليها الهزيمة فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد، ولم يمض سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين تحت تأثير العقيدة الإسلامية فإذا بهم يدخلون بهم في دين المغلوبين على خلاف ما هو معروف أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب المنصور ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4). ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثـية:26). ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) (فاطر:44)
لا تيأسوا إن تستردّوا عزكم .......... فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى
وتجشموا للعز كل عظيمة ............. إني رأيت العز صعب المرتقى
إن قراءة متأنية لتاريخ الصلبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بان الواقع سوف يتغير فاسمع إلى ابن كثير (في البداية والنهاية) وغيره من أهل السير وهم يسردون لك هذا الحدث: ( وفي ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب وارتكبوا ما لاترتكب أكثر منه الشياطين لبثوا فيه أسبوعا يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفا منهم الأئمة والعلماء والمتعبدون والمجاورون وكانوا يجبرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت لأنهم يشعلون النار عليهم وهم فيها فلا يجدون مخرجا إلا بإلقاء أنفسهم من السطوح جاسوا فيها خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدنانير ثم وضعت الصلبان على بيت المقدس وأدخلت فيه الخنازير ونودي من على مآذن لطالما أذن بالتوحيد من عليها : أن الله ثالث ثلاثة- جل اله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث وظن اليائسون ألا عودة لبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين .
كم طوى اليأس نفوسا لو رأت .......... منبتا خصبا لكانت جوهرا
ويمضي الزمن ويعد الرجال وفي سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشا لإسترداد بيت المقدس وتأديب الصلبيين على مبداهم هم : إن القوي بكل أرض يتقي وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تقول:
يا أيها الملك اـذي ............ لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى ...... من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا ....... على شرفي أنجس
فانتخى وصاح وا إسلاماه وامتنع عن الضحك وسارع في الإعداد ولم يقارف بعدها ما يوجب الغسل .
من ذا يغير على الأسود بغبها ........ أو من يعوم بمسبح التمساح
وعندها علم الصلبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم فتصالح ملوك النصارى وجاؤا بحدهم وحديدهم وكانوا ثلاثة وستين ألف فتقدم صلاح الدين إلى طبريا ففتحها بلا إله إلا الله فصارت البحيرة إلى حوزته استدرجهم إلى الموعد الذي يريده هو ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم.
وعندها تقابل الجيشان وتواجه الفريقان وأسفر وجه الإيمان وأغبر وجه الظلم والطغيان ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان عشية الجمعة واستمرت إلى السبت الذي كان عسيرا على أهل الأحد إذ طلعت عليهم الشمس واشتد الحر وقوي العطش وأضرمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش الذي كانت تحت سنابك خيل الكفار فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وحر مقابلة أهل الإيمان.
وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل ثم هجموا كالسيل الدفاع لينهزم الكفار ويؤسر ملوكهم ويقتل منهم ثلاثون ألفاً حتى قيل لم يبق أحد ويؤسر منهم ثلاثون ألفا حتى قيل لم يقتل أحد، فلم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، حتى ذكر ان بعض الفلاحين رؤي وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا يربطهم في طنب خيمته، وباع بعضهم أسيرا بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيرا بكلب يحرس غنمه.
ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس، ففي هذه الإستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيأس ؟ : الرؤوس لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، يوم عادت البيع مساجداً ، والمكان الذي قال فيه : إن الله ثالث ثلاثة صار يشهد فيه : أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم سار نحو بيت المقدس ليفتح من الجهة الشرقية ويخرجهم منه فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم –ويخرج ذليلا- عن نفسه عشرة دنانير وعن المرأة خمسة وعن الطفل دينارين ومن عجز كان أسيرا للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسراء للمسلمين.
ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالآذان ووحدوا الرحمن وجاء الحق وبطلت الأباطيل وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات وتنزلت البركات وتجلت الكربات وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وخرس القسيسيون وأحضر منبر نورالدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحد وتسعين عاما، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:45)، ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4).
معاشر المسلمين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجمعة ولم تعطل فيه الجماعة ومع ذا :
يئست أنفس ونامت عيون ....... فجراح تغدو وتأتي جراح
فأين النجم من شمس وبدر ...... وأين الثعلبان من الهزبـر
المؤمن لا يعر ف اليأس ولا يفقد الرجاء إذ هو واثق بربه ثم هو واثق بحق نفسه ثم هو واثق بوعد الله، إن مرت به محنة اعتبرها دليل حياة وحركة فإن الميت الهامد لا يضرب ولا يؤذى وإنما يضرب ويؤذى المتحرك الحي المقاوم- كما قيل – كالذهب والحديد يدخل النار فيستفيد إذ يذهب خبثه ويبقى بهاؤه.
يؤلف إيلام الحوادث بيننا .......... ويجمعنا في الله دين ومذهب
إن علينا –معشر المسلمين- أن نكون بحجم التحديات بصبر وثبات ولسان حال كل واحد منا :
فيقصر دون باعي كل باع ........... ويحصر دون خطبتي الخطيب
إني أبيٌَ أبيُ ذو مغالبـة ............ وابـن أبيّ أبيّ من أبيـين
إن الوصول إلى القمة ليس الأهم لكن الأهم البقاء فيها، إن الإنحدار إلى القاع ليس هو الكارثة لكن الكارثة هو الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس والله الدواء في بكاء الأطلال وندب الحظوظ إنه في الترفع عن الواقع بلا تجاهل له، فالاستعلاء النفسي عليه في تحرر للفكر من إرهاقه ويأسه وخباله، بإرادة قوية حرة أبية يمكن تحويل عوامل الضعف إلى القوة باذن رب البرية ( إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل شج وجهه وكسرت رباعيته وانخذل عنه من انخذل وإذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقا منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين ولقضوا على البقية الباقية من المسلمين وهذا يدل على حكمة الرسول الأمين عليه صلوات الله رب العالمين، وأبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فإذا به ينقل الأمة نقلة من واقع إلى واقع بتأب عن اليأس وترفع على الهزيمة وحاله:
فليس يجلي الكرب رأي مسدد ........... إذا هو لم يؤنس برمح مسدد
إن المستقبل لهذا الدين بدون منازع ولكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية ولكنه بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من منطلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة ( ووعد الله لن يتخلف لكنه لن يتحقق أبدا على يد أقوام لا يستحقونه ولا يفهمون سننه ولا يضحون من أجله).
فإذا حاولت في الأفـق منـىً .......... فاركب البرق ولا ترضى الغماما
وما السيف إلا زبرة لو تركته ......... على الخلقة الأولى لما كان يقطع
ألا أنني لا أركب اليأس مركبا ......... ولا أكبر البأساء حين تغيــر
نفسي برغم الحادثـات فتيـة .......... عودي على رغم الحوادث مورق
أيها اليائس مت قبل الممـات .......... فإذا شئت حيــاة فالرجـــا
لا يذيق ذرعك عند الأزمات ........... إن هـي اشتدت فأمــل فرجا
البيض تصدأ في الجفون إذا ثوت ...... والماء يأسن إن أقام طويلاً
صانع السيف كمـن يشهـره ......... في سبيل الله بين الجحفل
حقـق اللــه لنـا آمالنـا .......... وعلى الله بلوغ الأمل
االإشارة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث 22
أو ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام:152). ما أحوجنا إلى العدل على الطريق وحاجتنا أشد له في النقد ومعالجة الخطأ.
ويجدر بنا أن نذكر هنا المنهج العادل والطريقة المثالية لمعالجة الخطأ، وذلك حسبما رسمه لنا من أمرنا الله عز وجل بأن تكون لنا أسوة حسنة فيه صلى الله عليه وسلم، وما أكثر المواقف العادلة في سيرته صلى الله عليه وسلم ، بل أن سيرته صلى الله عليه وسلم كلها عدل، ونكتفي هنا بمثال واحد ألا وهو موقفه صلى الله عليه وسلم من صنيع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في فتح مكة، ويحسن أن نذكر القصة بتمامها؛ ليتضح لنا ذلك القسطاس المستـقيم الذي انتهجه الرسول صلى الله عليه وسلم في معالجة هذا الخطأ ، رغم شناعته وخطورته .
روي الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه ، عن علي رضي الله عنه، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير- وكلنا فارس- قال: انطرقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها إمراة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا : الكتاب، فقالت ما معي من كتاب فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً ، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب وإلا لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجرتها –وهي محتجزة بكساء – فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت ؟ قال حاطب : والله ما بي ألا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا وهناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال صلى الله عليه وسلم : صدق ولا تقولوا إلا خيرا . فقال عمر إنه قد خان الله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه ، فقال أليس من أهل بدر ؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة – أو فقد غفرت لكم- ، فدمعت عينا عمر ، وقال: الله ورسوله أعلم .
من هذه الحادثة نستطيع ان نحدد ثلاثة مراحل للمعالجة العادلة للخطأ ، مهما كانت ضخامته :
المرحلة الأولى: مرحلة التثبت من وقوع الخطأ :
في هذه الحادثة قد تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي، حيث أوحى الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بخبر الكتاب الذي أرسله حاطب مع المرأة، وأين هي المرأة .
المرحلة الثانية: مرحلة التثبت من الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ :
وهذا الأمر متمثل في قوله صلى الله عليه وسلم لحاطب : ما حملك على ما صنعت ؟ وهذه المرحلة مهمة ؛ لأنه قد يتبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذرا شرعيا في ارتكاب الخطأ، وتنتهي القضية عند هذا الحد، فإذا لم تنته عند هذا الحد مثل ما ظهر في قضية حاطب ، وأن العذر الذي أبداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مقنعا لكنه طمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدق حاطب، وأنه لا زال مسلما، نقول: إذ لم يكن العذر مقنعا من الناحية الشرعية، فإنه يصار إلى:
المرحلة الثالثة : وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطا وحشدها إلى جانب خطأه، فقد ينغمز هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته : وهذا هو الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع حاطب رضي الله عنه؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لعمر عندما استأذن في مقتل حاطب: أليس من أهل بدر؟ فقال : لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة – أو فقد غفرت لكم- .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله كلاما جيدا حول هذا الموضوع؛ حيث قال في رده على من قال: إن الله يعافي الجهال ما لا يعافي العلماء:
فالواجب: أن هذا الذي ذكرتموه حق لا ريب فيه، ولكن من قواعد الشرع والحكمة أيضا من كثرة حسناته، وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل من غيره، ويعفى منه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث؛ بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى الخبث.
ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال : أعملوا ما شئتهم فقد غفرت لكم .وقد ارتكب مثل هذا الذنب العظيم ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدرا، فدل على أن مقتضى عقوبته قائم لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشهد العظيم؛ فقوعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات.
ولما حض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة، قال : ما ضر عثمان ما عمل بعدها ، وقال لطلحة لما تطأطا للنبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد على ظهره إلى الصخرة : (أوجب طلحة).
هذا موسى كليم الرحمن عز وجل ألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه له ، ألقاها على الأرض حتى تكسرت،ولطم عين ملك الموت ففقأها ، وعاتب ربه ليلة الإسراء في النبي صلى الله عليه وسلم، وقال شاب بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، وأخذ بلحية هارون وجره إليه وهو نبي الله، وكل هذا لم ينقص من قدره شيئا عند ربه ، وربه تعالى يكرمه ويحبه ، فإن الأمر الذي قام به موسى ، والعدو الذي برز له ، والصبر الذي صبره والأذى الذي أوذي به في الله أمر لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور ، ولا تغير في وجهه ولا تخفى منزلته.
وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أنه من له ألوف من الحسنات؛ فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوهما،حتى أنه ليختلج داعي عقوبته على إساءته وداعي شكره على إحسانه؛ فيغلب داعي الشكر داعي العقوبة، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ............ جاءت محاسنه بألف شفيع
وقال آخر :
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ......... فأفعاله اللآئي سررن كثير
والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته، فأيهما غلب كان التأثير له، فيفعل بأهل الحسنات – الذين آثروا محابه ومراضيه، وغلبتهم دواعي طبعهم أحياناً – من العفو والمسامحة ما لا يفعله مع غيرهم.
* * * * *