أثر الإسلام في تحويل الاهتمامات وتغيير العقليات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70، 71].
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون:
حديثنا اليوم عن الأثر العظيم للإسلام في تحويل اهتمامات الناس وتغيير عقولهم من التفاهة والانحطاط إلى الحكمة والجدية والرفعة.. فقد كان الناس ومنهم العرب يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء... روى البخاري عن أبي رجاء العُطاردي قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به.
وكانوا كأمثالهم اليوم يقدمون القرابين والنذور لأصنام لا تعقل ويتحاكمون إليها... ويتمسحون عندها أذلاء يطلبون قضاء الحاجات وتفريج الكربات واختيار ما فيه المصلحة لهم في أسفارهم ونكاحهم وغير ذلك... وكانت عقولهم الضيقة كعقول كثيرين اليوم لا تهضم أن هناك بعثًا بعد الموت، وحياة بعد هذه الحياة فيها الحساب والثواب والعقاب، وقالوا: {مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْر} [الجاثـية: 24]. وقالوا: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49].
أما من جهة الأخلاق فكانت فيهم أدران وأمراض متأصلة وكانوا أهل فجور وفواحش.. وكانت العاهرات والبغايا ينصبن رايات على أبواب ليطلبهن من يريدهن... وربما اجتمع العشرة على المرأة كلهم يصيبها... أما الربا فكان أصلاً راسخًا... وأما شراب الخمر فكان واسع الشيوع شديد الرسوخ فيهم حتى شغلت جل اهتماماتهم... فالشعراء تتحدث عن معاقرتها والاجتماع على شربها، وشغلت جانبًا كبيرًا من شعرهم وتاريخهم وأدبهم، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم وكثر فيها التفصيل كثرة تدعو إلى العجب، أما المرأة فكانت تورث كما يورث المتاع والدابة... يموت الرجل وله صبي صغير فتحبس له المرأة حتى إذا كبر إن شاء نكحها وإن شاء أنكحها غيره وأخذ صداقها، وإلا ظلت مرهونة حتى تموت ويذهب بمالها...
وكان من المأكولات ما هو خاص للذكور ومحرم على الإناث، وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد وكانوا يقتلونهن ويندد بهن بقوة نادرة في بعض الأحيان، فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد أو لشغله فلا يئدها إلا وقد كبرت وصارت تعقل، وقد حكيت في ذلك بكميات... وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق.
وكانت العصبية القبلية والدموية شديدة جامحة، وكان أساسها جاهليًّا تمثله الجملة المأثورة عند العرب: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا... وكان أول من قالها جندب بن عنبر في الجاهلية بمعناها الظاهري غير المعنى المراد في الحديث الشريف. فكانوا يتناصرون ظالمين أو مظلومين..
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانًا
وكان الحرب والغزو مما طبعت عليه طبيعتهم العربية وألهمتهم إياه معيشتهم البدوية حتى صارت الحروب والمشاجرات مسلاة لهم وملهى، فقال قائلهم:
وأحيانًا على بكر أخينا إذ ما لم نجد إلا أخانا
فهانت عليهم الحروب وإراقة الدماء لأتفه الأسباب، حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات شأن ولاحظ... فقد وقعت الحرب بين قبيلتي بكر وتغلب ابني وائل ومكثت أربعين سنة، أريقت فيها دماء غزيرة وهي حرب البسوس؛ وما ذاك إلا لأن كليبًا رئيس معد رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها فقتل جساس بن مرة كليبًا واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب، وكان كما قال المهلهل أخو كليب: قد فني الحيان، وثكلت الأمهات، ويتم الأولاد، دموع لا ترقأ، وأجساد لا تدفن.
كذلك حرب داحس والغبراء، فما كان سببها إلا أن داحسًا فرس قيس بن زهير كان سابقًا في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر فاعترض رجل الفرس بإيعاز من حذيفة ليشغله ففاته الخيل، وتلا ذلك قتلٌ، ثم أخذٌ بالثأر، وأسرٌ، ونزحٌ للقبائل، وقتل في ذلك ألوف من الناس...
وكان العرب بصفة عامة في جزيرتهم متفرقين يعيشون حياة شاقة، وكان القوي يبطش بالضعيف.. وإن كنا لا ننكر أنه قد قامت للعرب ممالك في كل من اليمن والعراق والشام ولكنها كممالكهم اليوم، ممالك هزيلة ضعيفة، وكان الملك العربي كعصفور في قفص ذهبي لا يستطيع أن يخرج منه إلا بأمر يصدر من كسرى أو هرقل، فالفرس كانوا يستعينون بالعرب اللخميين المناذرة، في حين كان الرومان يستعينون بالعرب من آل جفنة الغساسنة، وإذا نشبت حرب بين الرومان والفرس كان الغساسنة يقاتلون المناذرة ويفني بعضهم بعضًا، ولا خيار لهم في ذلك والسادة يتفرجون.
وعندما اعتذر النعمان بن المنذر ملك الحيرة ودولة المناذرة لكسرى عن الحرب لأنه لا يستطيع تنفيذ ما أمره به، غضب عظيم الفرس ففر من غضبه ملك الحيرة رهبة وخوفًا، وطاف القبائل العربية طالبًا المنعة، فأبوا عليه خوفًا من كسرى. واضطر النعمان بن المنذر إلى الاستسلام، فأودع أهله وماله عند هانئ بن مسعود الشيباني، ثم توجه إلى كسرى ووقف ذليلاً ببابه يطلب منه أن يغفر له ذنبه، فما كان من طاغوت الفرس إلا أن قيده وسجنه حتى مات، ثم استعمل مكانه إياس بن قبيصة الطائي عاملاً له على الحيرة...
أما شبه الجزيرة العربية فكانت تقوم بها دويلات صغيرة ثم تنهار بعد زمن يسير لأنها تفتقد مقومات الدولة، ولو كان في هذه البلاد نفع لما تردد الفرس أو الرومان في احتلالها والسيطرة عليها... ومما يصور عجز العرب وتفاهتهم وضعفهم عند الأمم مقالة عبد المطلب لأبرهة لما أتى ليهدم الكعبة المقدسة عند العرب: أما الإبل فهي لي، وأما البيت فله رب يحميه... هذه العبارة التي يسوقها الكثيرون بسطحية على أنها من عظمة عبد المطلب ولا يتأملون ما وراءها من تخاذل وضعف ومهانة... ولتتصور الأمة أن الكفرة أرادوا هدم الكعبة فتركهم حكام المسلمين وقالوا لهم: للبيت رب يحميه، فهل يقول عاقل: إن هذا موقف قوة وعظمة أم يجزم بأنه أقوى دلالة على الضعف والذل والمهانة؟
وفي ظلمات الجاهلية والذلة والمهانة التي خيمت على العرب أشرق النور المبين، وكانت الرسالة الرفيعة التي غيرت الموازين وغيرت التاريخ.. وغيرت النفوس وغيرت العقول... وحولت الاهتمامات؛ الرسالة التي أتى بها محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فربى بها رجالاً أفذاذًا.. وصنع من الجاهلين التافهين نماذج فريدة عظيمة من البشر.. أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما.. حتى يعجب المتأمل في ذلك التحول العظيم الذي صنعته هذه الرسالة فيمن اعتنقها... رجل مثل عمر الذي كان يعيبه في الجاهلية بتلك العقلية التي تدعو لعبادة الحجر وللمشاجرات التافهة في الأسواق.. ليس له ذكر ولا وزن... إذا به يتحول إلى الخليفة الراشد الوقور الورع العبقري كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم.. البكَّاء من خشية الله.. الذي أدب أعداء الله.. وأعز الله به الدين، وكثيرون غير عمر شهد التاريخ تحولهم العجيب من اهتمامات إلى اهتمامات ومن حياة إلى حياة...
بل تحول أمة من ذلة إلى عزة ومن تبعية إلى سيادة وقيادة ومن ضلال إلى هداية... هذا الانعكاس الذي لم يحدثه تغير في القوى الاقتصادية ولا غيرها.. ولم يمتلك العرب مالاً فغيرهم وقواهم... وإنما حولتهم العقيدة والعقيدة وحدها، العقيدة التي رباهم بها وعليها المصطفى صلى الله عليه وسلم فأخرج منهم رجالاً توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم... فتزعموا العالم، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها، وساروا بالإنسانية سيرًا حكيمًا متزنًا عادلاً... فهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية نقية، فلا يقننون ولا يشرعون من عند أنفسهم، ولم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومات في الماضي والحاضر، ثم إنهم لم يكونوا خدمة جنس ورسل شعب ووطن يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده، وإنما قاموا ليخرجوا الناس كافة من عبادة العباد جميعًا إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وقد كان هذا التحول العظيم في العرب أفرادًا وكيانًا مثار عجب وذهول في الفرس وغيرهم وجهلوا أو تجاهلوا أسبابه الحقيقية وهي عقيدة التوحيد...
فهذا يزجرد قائد الفرس يقول لسعد بن أبي وقاص: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، ولا تغزوكم فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وجعلنا عليكم ملكًا يرفق بكم... ولكن خاب يزجرد وضل فيما قاله.. فلم يحرك العرب لحرب الفرس طلب القوت، ولم يعودوا أذلاء ليجتهد يزجرد وغيره حتى يرضوانه بالكسوة، وإنما خرجوا لنشر عقيدة التوحيد وإخضاع الأمم لدين خالقها وبارئها، في عزة وعلو.. ورفعة ومكانة لا تفارقهم ما داموا متمسكين بدينهم العظيم وهذا ما حدث بالفعل.
فإنه لما انطفأ حماس المسلمين لدينهم وتخاذلوا عنه وفرطوا فيه إذا بالزمان قد استدار كهيئته يوم كان العرب قبل البعثة النبوية، أخذت الذلة تدب فيهم من جديد، وعادوا إلى التخلف عن الأمم وسادهم غيرهم وساسوهم.. هذا هو التفسير الصحيح للعطب.. والذي يحاول أن يعكسه المضللون في حربهم المستترة للإسلام.. فيوهمون الناس أن عليهم أن يتحرروا من قيود الماضي التي هي الدين ليلحقوا بالأمم الكبرى بزعمهم، ويعجب المرء ألا يشعر هؤلاء أنهم يكذبون على أنفسهم وعلى التاريخ، ألا يدرك هؤلاء متى كانت العزة للمسلمين ومتى كانت الذلة في مختلف فترات تاريخهم([1])...
ولكنه الكفر بنعمة الله وتجاهل منته العظيمة سبحانه وتعالى منته عليهم بتزكيتهم بهذا الدين وإعزازهم به، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]، ولكنهم تنكروا لنعمة الله، ومصير كل من يبدل نعمة الله ويتجاهلها معروف؛ فهو مصير مؤلم مزعج في الدنيا والآخرة، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:28، 29]، {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72]... سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.