الإيمان بالقدر هو الركن الخامس من أركان الإيمان ، كما دل على ذلك حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان ، فقال : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى ) متفق عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( كل شيء بقدر حتى العجز والكَيْس ) رواه مسلم . والمراد بالعجز الكسل عن أداء الأعمال ، والكيس : النشاط والحذق في الأمور ، والمعنى أن العاجز قد قُدِّرَ عجزه ، والكيِّسُ قد قُدِّرَ كَيْسُه . وقال تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (القمر:49) .
ولما كان الإيمان بالقدر بهذه المنزلة من الدين ، كان جاحده ومنكره من الكافرين ، قال صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني محمد رسول الله بعثي بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر ) رواه الترمذي وصححه الألباني .
[center]
ومعنى القدر شرعاً : هو تقدير الله عز وجل الأشياء في القدم ، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده ، وصفات مخصوصة ، وكتابته - سبحانه - لذلك ، ومشيئته له ، ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه لها .
وبموجب هذا التعريف يتبين لنا أن مراتب القدر أربعة :
المرتبة الأولى : العلم ، والمراد به علم الله الأزلي بما كان وما يكون ، وبما لم يكن لو كان كيف يكون ,فالله قد أحاط بكل شيء علماً ، فلا تخفى عليه خافية ، ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة ،قال تعالى:{ الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } (الطلاق:12) وقال تعالى : { إن الله بكل شيء عليم } (التوبة: من الآية115) ، وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : ( قال رجل يا رسول الله : أعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار ؟ قال : نعم ، قال : ففيم يعمل العاملون ؟ قال : كل ميسرٌ لما خلق له ) رواه البخاري ومسلم .
والمرتبة الثانية : الكتابة ، والمقصود منها الإيمان أن الله كتب مقادير الخلائق كلها في كتاب عنده ، قال تعالى : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } (الأنعام:38) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ) رواه مسلم . وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً : ( إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، قال : رب ! وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) رواه أبو داود وصححه الألباني .
والمرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر : الإيمان بمشيئته سبحانه ، وأن كل ما يجري في الكون إنما هو بإرادته سبحانه ، لا يخرج شيء عنها ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، قال تعالى: { وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين }(التكوير:29)، وقال صلى الله عليه وسلم : { إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء } رواه مسلم .
والمرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر : الإيمان بأن كل ما في الكون ، من خلق الله عز وجل وتكوينه ، قال تعالى: { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل }(الزمر:62) .
هذا هو معنى القدر وتلك هي مراتب الإيمان به ، فإذا تقرر لدى المسلم هذا المعنى اطمأنت نفسه ، وهدأ باله ، وعلم أن له من ربه حافظاً ومعيناً ، فالكل يجري تحت علم الله وبصره ، والكل يمشي بمشيئته وقدره ، فهو المقدر وهو الميسر ، ومقاليد الأمور جميعاً بيده ، فكيف يخاف المسلم من غيره ، أو يتوكل على سواه.
[
إثبات القدر
وأخبرنا أبو محمد المخلِدي قال: أخبرنا أبو العباس السراج قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي هو ابن راهويه قال: أنبأنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمكتوب في الكتاب من أهل النار فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل النار فمات فدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، وإنه لمكتوب في الكتاب أنه من أهل الجنة، فإذا كان قبل موته عمل بعمل أهل الجنة فمات فدخل الجنة [/url] . <hr>
وهذا حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في المسند وغيره، وفيه الدليل أيضًا على إثبات القدر ، وأن الهداية والإضلال، والشقاوة والسعادة، بيد الله، وأن الإنسان لا بد أن يصير إلى ما كُتب له.
فالمؤمن لا بد أن يموت على التوحيد ثم يدخل الجنة، والكافر لا بد أن يموت على الكفر فيدخل النار، نسأل الله السلامة والعافية.
وفيه الردُّ على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان يهدي نفسه ويضلُّ نفسه، ويُشْقِي نفسه ويسعد نفسه، هكذا يقول القدرية وهذا من أبطل الباطل.
يزعم أعداء الإسلام أن الإيمان بالقدر هو سر تخلف المسلمين وقعودهم عن اللحاق بركب الحضارة المادية ، مستدلين على ذلك بواقع المسلمين اليوم ، حيث انتشر فيهم التخلف والفقر والجهل ، وربطوا الإيمان بالقدر وواقع المسلمين ، زاعمين أن القدر يدفع الناس إلى الكسل وترك العمل ، تحت دعوى أن كل ما هو مقدر فسيكون . وجواباً على هذا الزعم المفترى نقول : إن الأسباب الكامنة وراء تخلف المسلمين كثيرة منها داخلية ومنها خارجية ، وإن كان الإيمان بالقدر من بين تلك الأسباب فمردُّ ذلك إلى الفهم الخاطئ لهذا الركن العظيم من أركان الدين ، ونقول لهم أيضاً : إنه من غير الممكن أن يكون حال المسلمين حاكماً على الإسلام نفسه ، وإذا أراد هؤلاء أن يحاكموا الإسلام بالنظر إلى حال معتنقيه فليحاكموه بحال معتنقيه الأوائل من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، وكيف أنهم في فترة وجيزة فتحوا جزيرة العرب وخضعت لهم مملكتا فارس والروم ، فلو كان الإيمان بالقدر هو سر تخلف المسلمين ، لما وصل المسلمون في العهد الأول - وكانوا مؤمنين بالقدر - إلى ما وصلوا إليه ، ولقعد بهم عن العمل كما قعد بِخَلَفِهِم .
وبعد هذه المقدمة التي لابد منها نعرض لبعض ثمار الإيمان بالقدر ، حتى يتضح عظم منزلة منزلته من الدين ، وعظم آثاره وثماره على المسلمين ، ويتضح بذلك فساد زعم أعداء الإسلام ، فنقول وبالله التوفيق:
إن للإيمان بالقدر ثمارا جليلة يدركها كل مؤمن به ، منها:
ربط العبد بخالقه سبحانه ، ذلك أن الحياة مليئة بالمفاجآت ، فلا يدري المرء ما يحصل له من خير ، أو ما يدهمه من شر ، فيأتي الإيمان بالقدر ليبقي قلب المؤمن معلقاً بخالقه ، راجياً أن يدفع عنه كل سوء ، وأن يعافيه من كل بلاء ، وأن يوفقه لخيري الدنيا والآخرة ، فتتعلق نفسه بربه رغبةً ورهبةً.
ومن ثمار الإيمان بالقدر معالجة أمراض المجتمع الناشئة عن عدم الرضا بقضاء الله وقدره ، كالحسد الذي يدفع العبد إلى الضغينة والحقد ، فإن العبد إذا علم أن الله هو المعطي وهو المانع ، وأن الرزق مقسوم والأجل محدود ، سلَّم أمره إلى الله ، وقنع بما رُزِق ، وعلم أن ما كتب له سيأتيه . ولو لم يرد أهل الأرض ، وأن مالم يكتب لن يأتيه ولو أراد أهل الأرض.
ومن ثمار الإيمان بالقدر أنه يبعث في النفوس الشجاعة والإقدام والثبات في ساحات القتال ، لإيمانها بأن الآجال محدودة ، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، فيدفعه ذلك إلى الإقدام ، وترك الإحجام والمقاتلة بكل قوة وشجاعة .
ومن ثمار الإيمان بالقدر أنه يورث العبد قدرة على مواجهة المصائب والأحداث فلا يستسلم وينهار ، ولا تضعف نفسه ، بل يسلم أمره لله قائلا ( إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ) كما روى ذلك مسلم في صحيحه.
ومن ثمار الإيمان بالقدر تحرر العبد من الخوف إلا من الله جلَّ وعلا ، فإذا علم المسلم أن لكل أجل كتاب ، ولكل أمر مستقر ، وأن نواصي العباد بيده سبحانه ، لم يرهبه ظلم ظالم ، ولا تجبر جبار .
ومن ثمار الإيمان بالقدر الحرص على الأعمال الصالحة ، لعلم العبد أن الموت قد يدهمه في أي لحظة ، فيكون حاله كمن يسابق الزمن في سبيل التزود من عمل الخير .
هذه بعض ثمار الإيمان بالقدر ، وهي غيض من فيض ، ونقطة من بحر ، ولن تتضح لك جلياً حتى تتأملها في نفسك وإخوانك ، وحتى تتأمل نقيضها فيمن لا يؤمن بالقدر ، فكم قتلت الحيرة نفوساً أرقها التفكر في المستقبل . أو أزعجها وقوع مصيبة عليها، لذلك نجد أن الإسلام في سجون الكافرين يلقى قبولا عظيما - كما ذكر ذلك بعض الكتَّابِ - وذلك لما يوفره الإيمان من راحة نفسية وطمأنينة قلبية تحمل صاحبه على التسليم لله جلا وعلا ، وتفويض الأمر إليه .