أجمل ما في شهر رمضان تلك الدفعة الإيمانية الرائعة التي تنفجر داخل كل مسلم بمجرد انطلاق أول أذان فجر في أول أيام الشهر الكريم. وأروع ما في شهر رمضان أنه يعطي الأمل للآلاف من العاصين والمذنبين لكي يبدءوا صفحةً جديدةً ناصعة مع ربهم وهم يعلمون جيدًا أنه يستقبلهم بكل الحب والرحمة والمغفرة.
وأحلى ما في شهر رمضان أنه يمثل ظاهرة جماعية في حب الله وحب الناس وحب الخير والرغبة في الحديث إلى الله ومناجاته آناء الليل وأطراف النهار.
وليس هناك أجمل ولا أروع ولا أحلى من أحاديث عديدة تدفع المسلمين للاستعداد لبدء حياة جديدة تمثل نقطة بداية على طريق الجنة وسعادة الدنيا.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: " إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين مردة الجن، وغُلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار" (رواه البخاري).منحة ربانية لمدة ثلاثين يومًا كاملة بتقييد الشياطين وتأثيرهم السيئ على البشر لرفع لضغط عن كل مَن يبحث عن الهداية طوال العام، فيضعف أمام شهوات النفس ومغريات الحياة، منحة ربانية تفتح فيها أبواب الجنة وتغلق فيها أبواب النار لمن يتعطش دومًا إلى تغيير نفسه وإصلاح عيوبه، ولكن شغلته الحياة وخذله الأصدقاء.الآن جاءت الفرصة، الفرصة الكاملة لينطلق الجميع في رحاب الله نحو حياة أخرى تحيا بالطاعة وتسمو بالإيمان وتسعد بالقرب من ربها وتحلم بأبعد من أحلام الدنيا الضئيلة، بجنة عرضها السموات والأرض.
إلا أن المحزن في الأمر أن تلك الفرصة الهائلة التي لا تتكرر إلا مرة كل عام، لا تلبث أن يزهد فيها الكثير من الناس بعد أيام معدودة من رمضان، بعد أن يكون قد بدءوا الشهر بكل الحماس ووعدوا أنفسهم كل الوعود بأن لا يضيعوا لحظةً من ثلاثين يومًا هي عمر الشهر الكريم فيما لا يفيد.بعدها تصبح الأيام عادية ويتسرب الندم إلى النفوس وهي ترى غيرها يهرع إلى كنوز من الحسنات وهي تنظر إليها في حسرة، وقد نجحت (أجنحة الشيطان)، الدنيا والنفس والهوى في اصطياد فريستها في غيبته مرة أخرى، حتى إن بعض الأشخاص- ويا للعجب- يحزن لقدوم شهر رمضان؛ لأنه يذكر معه ضياع رمضانات أخرى كثيرة سابقة بنفس الطريقة ونفس السيناريو المكرر. إذن ما الذي حدث؟ وما الذي يحدث؟
1- الحماس والعاطفة الدينية لا بد أن يصاحبه تعقل وتدبر يدفع جو رمضان المبهر والعاطفة الدينية الجياشة إلى الإقبال على العبادة بشغف وبحب ربما بصورة لا إرادية في بعض الأحيان، والخطأ ألا يُصاحَب هذه الحماس الجارف تعقل يحدد الهدف بدقة من شهر رمضان ويقود هذه الحماس إلى تغيير صاحبه تغير حقيقي يقوي صلته بالله ويهذب أخلاقه ويصلح من تعاملاته مع أسرته ومع الناس، إنه العقل الذي يقود الحماس إلى التخطيط من أجل تغيير حياة الإنسان مستغلاً دفعة رهيبة من عاطفة دينية غير عادية صنعت انتصارًا معجزةً في بدر، والعديد من الانتصارات العسكرية الأخرى، ونحن نريد منها اليوم أن تقودنا لانتصارنا على أنفسنا ليس في رمضان فقط ولكن لأحد عشر شهرًا مقبلة، وبدون العقل يفتر الحماس بعد فترة ويهاجمنا الملل ويحدث السقوط ويضيع رمضان وتضيع معه الفرصة
2- مفهوم العبادة لا خلافَ على أن العبادة الروحية المتمثلة في الصلاة والقيام قراءة القرآن والأذكار أمرًا لا غنى لكل مسلم، فهي الوقود الذي يغذي المسلم بالإيمان ويوثق صلته بالله يجعله في حالة دائمة من الرجاء والخوف من خالقه تُحيي قلبه وضميره، إلا الخطأ كل الخطأ أن نختزل كل شهر رمضان في العبادة الروحية فنصبح كمن يصر على ملء كوب واحد فقط بالماء وبجانبه أكواب أخرى فارغة لا يلتفت لها، إن مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم شامل يشمل سلوكيات الإنسان جميعًا مع أسرته ومع أصدقائه وفي الشارع وفي العمل، وطالما صاحب السلوك نية الإخلاص فهو عبادة، لها من الأجر والثواب الكثير، والمطلوب ألا نجعل من العبادة الروحية هدفًا، بل نجعلها وسيلةً نتزود بها من الوقود الإيماني الرباني الذي يدفعنا بعد ذلك لنصحح من سلوكياتنا في المجتمع، فنتعامل بأخلاق الإسلام ونُرسِّخ قيمه ومبادئه في تعاملاتنا، ونتحرك لخدمة المجتمع ومساعدة الناس، أما إذا لم نستغل تلك الدفعة الروحية فسنصبح كمن يظل يملأ سيارته بالوقود وهي واقفة لا تتحرك، ولهذا السبب يشعر الكثير من الناس بالملل والتعب بعد فترةٍ من العبادة، وبعد شهر رمضان يظن أن مهمته قد انتهت، وهي في الحقيقة لم تنتهِ، ولن تنتهي أبدًا طالما كنا على ظهر الحياة.
3- استغلال الطاقة الإيمانية في العمل ربما تكون هذه النقطة مكملة لسابقتها، ولكني أريد أن أزيد فيها إلى أنه لا يكتفي المرء بالعبادات الساكنة (الصلاة، القيام، قراءة القرآن ..الخ)، بل ينبغي أن يضع لنفسه خطةً للعبادة المتحركة، مثل وضع برنامج زيارات لإعادة أو تحسين العلاقات مع الأقارب، أو وضع برنامج للسؤال عن أحوال الأصحاب ومحاولة مساعدتهم، أو وضع برنامج لحل مشاكل الأسرة والأبناء والتقارب منهم ومحاولة فهم مشاكلهم، أو برنامج لمعالجة الأخطاء الشخصية، وبذلك يشعر المؤمن أن إيمانه وعبادته تترجم إلى فعل وإنجاز في حياته، فيشعر بمتعة العبادة وأهميتها ويدرك قيمتها وفعاليتها في الحياة.
4- الواقعية من الصعب أن يظل الإنسان على نفس المستوى في العبادة طيلة شهر كامل، ومن الصعب أيضًا أن تنطلق من أعلى نقطة في العبادة من أول يوم في رمضان، وربما يصاب المرء بالحزن بعدما يجد نفسه قد ثقلت بعد عدة أيام، فيشعر أن الشهر قد بدأ يتسرب منه وأن أمنياته مع الشهر قد بدأت تذهب أدراج الرياح، والحل في الآتي:
- لا بد أن يظل الإنسان في حالة صعود وهبوط طيلة الشهر، هذا أمر طبيعي لا تجعله يدفعك للإحباط.
- لا تكن منفردًا، بل أشرك معك صحبة صالحة تشاركك برامجك ويصبح الهدف هدفًا عامًّا وليس خاصًّا.
- أشرك معك زوجتك وأبناءك في تنفيذ برنامجك.
- ضع وقتًا للترفيه والراحة مع أصدقائك أو مع أسرتك ويفضل أن تكون نزهة خارجية، أو حوار أسري، وابتعد عن المواد الإعلامية الضارة التي تُبعدك عن روح الشهر الفضيل.
كل هذه العوامل السابقة ستجعلك تحافظ على توازنك طيلة شهر رمضان، وستجعلك بإذن الله من الفائزين بشهر رمضان، ولكن كي تفوز بالعام كله، أعقد النية من الآن على أن يكون أذان أول فجر من أول أيام الشهر الكريم، بداية انطلاقة لإصلاح حياتك وتصحيح أخطائك طيلة العام المقبل، وساعتها تكون قد أطلقت قذيفةً طويلة المدى طيلة أحد عشر شهرًا بدلاً من أن تكون قذيفتك مداها ثلاثين يومًا فقط.
خطط لكل ما سبق، سواء في مجال زيادة العبادة، أو تصحيح الأخطاء الشخصية، أو الاهتمام بالأسرة، أو مساعدة الآخرين، ولكن على مدى أحد عشر شهرًا وليس على مدار شهر واحد فقط.
خطط أخي الكريم ليكون رمضان نقطة انطلاق لبداية حياة جيدة لا تنتهي بانتهاء شهر رمضان، وإنما تستمر إلى أن تلقى الله وتفوز بوعده في جنات النعيم.
رفــــــــــــــــ ـالدرب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاق