عبدالنبي: اتفقنا أنه لا يجوز أن يُطلب من أحد شيء لا يملكه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه الله الشفاعة، ولأنه أعطيها فقد ملكها، وبهذا يجوز أن أطلب منه ما يملكه ولا يكون ذلك شركاً.
عبدالله: نعم هذا كلام صحيح لو لم يمنعك الله عز وجل من ذلك، حيث قال الله جل جلاله: ﴿فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ﴾،وطلب الشفاعة دعاء، والذي أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة هو الله، وهو الذي منعك من أن تطلبها من غيره أياً كان المطلوب، وأيضاً فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم، فصح أن الملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون ـ وهم الأطفال الذين ماتوا قبل البلوغ ـ والأولياء يشفعون، فهل تقول: إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم ؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت لا، بطل قولك أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله.
عبدالنبي: لكني لا أشرك بالله شيئاً، والالتجاء للصالحين ليس بشرك.
عبدالله: هل تعترف وتقر أن الله حرم الشرك أعظم من تحريم الزنا، وأن الله لا يغفره ؟
عبدالنبي: نعم أقر بذلك، وهو واضح في كلام الله جل جلاله.
عبدالله: أنت الآن نفيت عن نفسك الشرك الذي حرمه الله، فهل لك بالله عليك أن تبين لي ما هو الشرك بالله الذي لم تقع أنت فيه ؟ ونفيته عن نفسك ؟
عبدالنبي: الشرك هو عبادة الأصنام، والتوجه إليها، وطلبها، والخوف منها.
عبدالله: ما معنى عبادة الأصنام ؟ أتظن أن كفار قريش يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها ؟ هم لا يعتقدون ذلك كما ذكرت لك.
عبدالنبي: لا، بل من قصد خشبة أو حجراً أو بناية على قبر أو غيره يدعون ذلك، ويذبحون لـه، ويقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع الله عنا ببركته، فهذه هي عبادة الأصنام التي أعني.
عبدالله: صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية والحديد التي على القبور وغيرها، وأيضاً قولك: الشرك عبادة الأصنام ! هل مرادك أن الشرك مخصوص بمن فعل ذلك فقط ؟ وأن الاعتماد على الصالحين، ودعاءهم لا يدخل في مسمى الشرك ؟
عبدالنبي: نعم هذا ما أردت.
عبدالله: إذاً أين أنت من الآيات الكثيرات التي ذكر الله فيها تحريم الاعتماد على الصالحين والتعلق بالملائكة وغيرهم، وكفر من فعل ذلك، كما سبق وأن ذكرت لك ذلك.
عبدالنبي: لكن الذين دعوا الملائكة والأنبياء لم يكفروا بهذا السبب، ولكن كفروا لمَّا قالوا إن الملائكة بنات الله، والمسيح ابن الله، ونحن لم نقل: عبدالقادر ابن الله، ولا زينب بنت الله !
عبدالله: أما نسبة الولد إلى الله فهو كفر مستقل، قال عز وجل: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ¤ اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ والأحد: الذي لا نظير له، والصمد: المقصود في الحوائج، فمن جحد هذا فقد كفر ولو لم يجحد آخر السورة، ثم قال الله تعالى:﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ﴾، ففرق بين الكفرين، والدليل على هذا أيضاً أن الذين كفروا بُدعاء اللات مع كونه رجلاً صالحاً لم يجعلوه ابن الله، والذين كفروا بعبادة الجن لم يجعلوهم كذلك، وكذلك المذاهب الأربعة يذكرون في باب (حكم المرتد) أن المسلم إذا زعم أن لله ولداً فهو مرتد، وإن أشرك بالله فهو مرتد، فيفرقون بين النوعين.
عبدالنبي: ولكن الله يقول: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ .
عبدالله: ونحن نؤمن أنه الحق ونقول به، ولكن لا يعبدون، ونحن لا ننكر إلا عبادتهم مع الله، وإشراكهم معه، وإلا فالواجب عليك حبهم وأتباعهم، والإقرار بكراماتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالين، وحق بين باطلين.
عبدالنبي: الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن، ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟
عبدالله: ولكن لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صَدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكّذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد وجحد الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد وجوب الحج، ولما لم يَنْقَد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج أنزل الله تعالى في حقهم: ﴿ وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ ، وإن جحد البعث كفر بالإجماع، ولذلك صرح الله في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً، وأمر أن يؤخذ الإسلام جملة، ومن أخذ شيئاً وترك شيئاً فقد كفر، فهل أنت تقر أن من آمن ببعض وترك البعض كفر ؟
عبدالنبي: نعم أقر بذلك، وهو واضح في القرآن الكريم.
عبدالله: فإذا كنت تقر أن من صَدّق الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء وجحد وجوب الصلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث ولا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق القرآن كما قدمنا، فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر! سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل! وأيضاً تأمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويؤذنون.
عبدالنبي: ولكنهم يشهدون أن مسيلمة نبي، ونحن نقول لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
عبدالله: ولكنكم ترفعون علياً رضي الله عنه أو عبدالقادر أو غيرهما من الأنبياء أو الملائكة إلى مرتبة جبار السماوات والأرض، فإذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وحلَّ ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فمن رفعه إلى مرتبة الله فمن باب أولى، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار كلهم يدَّعون الإسلام، وهم أصحاب علي رضي الله عنه، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في عبدالقادر وغيره، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟، أتظن أن الصحابة يكفرون المسلمين؟، أم تظن أن الاعتقاد في السيِّد وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في علي رضي الله عنه يكفر؟ ويقال أيضاً: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن، وإنكار البعث، وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب «باب حكم المرتد»، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أشياء كثيرة، كل نوع منها يكفر، ويحل دم الرجل وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب، وكذلك الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ¤ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ فهؤلاء الذين صرح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المِزَاح، ويقال أيضاً: ما حكى عز وجل عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم، أنهم قالوا لموسى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً﴾، وقول أُناس من الصحابة (إجعل لنا ذات أنواط)، فحلف النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا مثل قول بني إسرائيل: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾.
عبدالنبي: ولكن بني إسرائيل، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط لم يكفروا بذلك.
عبدالله: الجواب أن بني إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا، ولو فعلوا ذلك لكفروا، وأن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه، واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا.
عبدالنبي: لكن عندي إشكال آخر، وهو قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه حين قتل من قال: «لا إله إلا الله» وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه وقولـه: (يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ)؟، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) فكيف أجمع بين ما قلت وبين هذين الحديثين، أرشدني أرشدك الله.
عبدالله: من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود، وسباهم، وهم يقولون: لا إله إلا الله، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، ويصلون، ويَدْعُوْن إلى الإسلام، وكذلك الذين حرقهم علي رضي الله عنه.
وأنت تقر أن من أنكر البعث كفر وقتل، ولو قال: لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئاً من الفروع، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه ؟!
وأنت لعلك لم تفهم معنى هذه الأحاديث:
أما حديث أسامة: فإنه قَتَل رجلاً ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعاه إلا خوفاً على دمه وماله، والرجل الذي أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ﴾ ، أي : فتثبتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإن تبين بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقولـه:﴿فَتَبَيَّنُواْ﴾ ، ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله، معناه ما ذكرناه، وأن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه، إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك، والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) هو الذي قال في الخوارج: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم)، مع أنهم أكثر الناس عبادة وتهليلاً، حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة، فلم تنفعهم لا إله إلا الله، ولا كثرة العبادة، ولا ادِّعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة.
عبدالنبي: وما هو قولك فيما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، فكلهم يعتذرون، حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً؟
عبدالله: هذا خلط منك بحقيقة المسألة، فإن الاستغاثة بالمخلوق الحي على ما يقدر عليه لا ننكرها، كما قال عز وجل: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ﴾، وكما يستغيث إنسان بأصحابه في الحرب وغيره في أشياء يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي تفعلونها عند قبور الأولياء، أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، فالناس يستغيثون بالأنبياء يوم القيامة، يريدون منهم أن يدعو الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة، أن تأتي عند رجل صالح يجالسك، ويسمع كلامك، وتقول لـه: ادع الله لي. كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا، فهم ما سألوه ذلك عند قبره بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره !
عبدالنبي: وما هو قولك في قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار اعترض له جبريل عليه السلام في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام: «أما إليك فلا»، فلو كانت الاستغاثة بجبريل عليه السلام شركاً لم يعرضها على إبراهيم؟